أتحترق بيروت؟

” يبدو أن نصر الله ما زال على قيد الحياة، ” هذا مانشرته الصحف الإسرائيلية، بعد إلقاء 22 طن منالقنابل على الثكنة المحصنة في بيروت، الذي كانمن المتوقع أن يتواجد زعيم حزب الله فيه.

إنه نصّ يثير الاهتمام . قبل ساعات من ذلك أجرى حسننصر الله لقاء مع قناة ” الجزيرة ” . لم يكن يبدو حيافحسب، بل كان يبدو مرتاحا وواثقا بنفسه. لقد تحدثأيضا عن قصف الثكنة المحضنة – وهذا إثبات بأنه قد تمتسجيل المقابلة في اليوم ذاته.

إذن ما معنى الكلمات ” يبدو أن … ” ؟ هذا أمر بسيطللغاية: يدّعي نصر الله بأنه حي، ولكن لا يمكننا أننصدّق أي عربي، فمن المعروف أن العرب يكذبوندائما. هذا أمر مغروس في طبيعتهم، كما صرح إيهودباراك في حينه.

إن قتل الرجل هو هدف قومي، يكاد يكون الهدفالرئيسي من هذه الحرب. لربما تكون هذه هي المرةالأولى التي تعلن فيها دولة ما الحرب بهدف قتل رجلواحد. كانت المافيا وحدها هي التي تهتم بمثل هذهالأمور حتى الآن. حتى البريطانيين في الحربالعالمية الثانية لم يصرحوا بأن الهدف هو قتلهتلر، بل على العكس، ما أرادوه هو إلقاء القبضعليه حيا ومحاكمته. هذا ما أراده الأمريكيون أيضافيما يتعلق بصدام حسين.

إلا أن وزراءنا قد قرروا رسميا بأن هذا هو الهدف.ليس في ذلك أي تجديد، فمنذ سنوات تنتهج حكومتناسياسات تهدف إلى قتل الزعماء. لقد قتل الجيشالإسرائيلي، من بين من قتلهم، عباس موسوي، زعيمحزب الله، أبا جهاد، الرجل رقم 2 في منظمة التحريرالفلسطينية، الشيخ أحمد ياسين وسائر زعماء حماس.أغلبية الفلسطينيين على قناعة، وهم ليسوالوحيدين، أن الجيش الإسرائيلي هو الذي قتل ياسرعرفات.

وما هي النتائج؟ خلفا لموسوي جاء نصر الله، وهوموهوب أكثر. خلفا للشيخ أحمد ياسين جاء الكثير منالزعماء الأكثر تطرفا. وقد احتلت حماس مكان ياسرعرفات.

كما هي الحال في مجالات سياسية أخرى، ففي هذاالمجال أيضا يسيطر فكر عسكري رجعي.

الرجل الذي يعود إلى هنا بعد غياب ويشاهدالتلفزيون الإسرائيلي يمكنه أن يأخذ انطباعابأن سُلة عسكرية تسيطر على هذه الدولة، مثلها مثلجنوب أمريكا (في الماضي).

تظهر كل مساء، في كل المحطات التلفزيونية، سُلةمن الجنرالات الذين يرتدون الزي العسكري،يشرحون العمليات العسكرية التي نفذت في اليومذاته، ويقدمون تحليلات سياسية ويعلنون عن الخطالسياسي.

في سائر ساعات البث التلفزيونية، يظهر جنرالاتمتقاعدين، يكررون أحاديث القادة العسكريين.(البعض منهم يبدون غير أذكياء – إن لم نقل أغبياء -ويكفي أن نتذكر أن هؤلاء الأشخاص هم الذين حددواذات مرة من ذا الذي سيعيش ومن ذا الذي سيموت. )

صحيح، نحن نعيش في نظام ديموقراطي. الجيش منصاعتماما إلى إمرة المستوى السياسي. يقضي القانونبأن الحكومة هي ” القائد الأعلى ” للجيشالإسرائيلي، ولكن من الناحية العملية، الجيش هومن يحدد اليوم العمليات السياسية والعسكرية علىحد سواء. فعندما يبلّغ حالوتس أعضاء الحكومة بأنالجيش قد قرر اتخاذ هذا الإجراء أو ذاك، فليس هناكأي وزير من وزراء الحكومة ليجرؤ على الاعتراض،وبالأخص وزراء حزب العمل التّبعة.

يقدم إيهود أولمرط نفسه على أنه وريث تشرتشل ( ” دم،عرق ودموع ” ). إنه أمر مثير للشفقة. عمير بيرتس ينفخصدره ويطلق التهديدات بكل الاتجاهات، وهذا أمريثير المزيد من الشفقة. إنه أشبه بذبابة تقف علىأذن ثور وتصرخ قائلة: ” نحن نحرث! ” .

أعلن رئيس الأركان هذا الأسبوع والرضا يكتنفه: “الجيش يحصل على دعم كامل من الحكومة! ” وهذا تفوّهيثير العجب. هذا يعني أن الجيش هو الذي يقرر ما يجبفعله، وما الحكومة إلا ” واقفة خلفه ” . وهذا صحيحبالطبع.

لم يعد ذلك سرا : لقد تم الاستعداد لهذه الحرب مسبقامنذ زمن بعيد . أشار المراسلون العسكريون هذاالأسبوع بتفاخر إلى أن الجيش قد تدرب، منذ عدةسنوات، على هذه الحرب بكل ما فيها من تفاصيل. قبلشهر واحد فقط، أجري تدريب كبير لدخول قوات بريةتابعة للجيش الإسرائيلي إلى جنوب لبنان – في ذلكالوقت الذي أعلن فيه الجنرالات والسياسيون أنه “لن نغوص أبدا في الوحل اللبناني ثانية. لن تدخل إلىهناك قوات برية بأي شكل من الأشكال ” . نحن الآنغائصون في هذا الوحل، وقواتنا البرية تعمل فيالميدان.

الطرف الثاني أيضا جهّز لهذه الحرب طيلة سنوات.فهو لم يكدّس ألاف الصواريخ ويخفيها عن العيان،بل جهّز أيضا شبكة مكثفة من الثكنات تحت الأرضية،الأنفاق والكهوف، بأسلوب فييتنام. يواجه جنودناالآن هذه الشبكة التي تجبي ثمنا باهظا. وكعادته،ينظر الجيش الإسرائيلي إلى ” العرب ” نظرة ازدراءواستخفاف بقدراتهم العسكرية.

هذه هي إحدى المشاكل الفكرية العسكرية. ليس صدفةأن يقول تاليران: ” الحرب هي موضوع أكثر جدية من أنتُترك بين أيدي العسكريين ” . فكر الجنرالات،وثمرة ثقافتهم ومهنتهم هو بطبيعته عدواني،مجرّد، أحادي البعد، إن لم نقل متخلّف. إنه يرتكزعلى الإيمان بأنه من الممكن حل كل المشاكلبالقوة، وإن لم يكن ذلك نافعا، فبالمزيد من القوة.

يظهر هذا الأمر جليا في التخطيط للحرب الحاليةوفي تنفيذها. ترتكز هذه الحرب على الافتراض بأنناإذا ألحقنا معاناة كبيرة بالسكان، فإنهمسينتفضوا وسيطالبوا بطرد حزب الله. إن حدا أدنى منفهم نفسية الجماهير يمكن أن يعلمنا أن العكس هوالصحيح. قتل مئات المواطنين اللبنانيين من كافةالطوائف، تحويل حياة من تبقّى إلى جحيم وتدميرالبنى التحتية الحياتية في المجتمع اللبنانيستثير موجة من الغضب والكراهية ضد إسرائيل – وليسضد أبطالهم، كما ينظرون إليهم، الذين يضحونبحياتهم لإنقاذهم.

ستكون النتيجة تقوية حزب الله، ليس في هذهالمرحلة فقط، بل طيلة سنوات. من الممكن أن تكون هذههي النتيجة الرئيسية للمعركة، نتيجة يمكنقياسها بكافة الإنجازات العسكرية، إن وجدت، ليسفي لبنان فحسب، بل في العالم العربي والإسلاميقاطبة.

أمام الفظائع، المعروضة على شاشات التلفزيونوالإنترنت، يتغير الرأي العام العالمي أيضا. ماكان يبدو في البداية ردا عادلا على اختطافالجنديين، يبدو الآن عملا وحشيا لآلية حرب وحشية.فيل في دكان التماثيل الرخامية.

في آلاف قوائم المراسلات في البريد الإلكترونيفي مختلف أنحاء العالم، يتم الآن نشر سلسلة فظيعةمن صور الرضّع والأولاد الممزقين. في نهايةالرسالة تظهر صورة مروّعة: بنات إسرائيلياتفرحات يكتبن التهاني على القذائف بقلم تلوين،قبل إطلاقها. ثم يكتبن ” شكرا لأطفال إسرائيل علىهذه الهدية الجميلة. شكرا للعالم الذي يشاهدمكتوف الأيدي. أولاد لبنان وفلسطين. “

السيدة التي تترأس قسم حقوق الإنسان في هيئةالأمم المتحدة، كانت قد عرّفت هذه الأعمالكجرائم حرب، الأمر الذي من شأنه أن يكون نقمة علىضباط الجيش الإسرائيلي في المستقبل.

بوجه عام، عندما يدير الدولة ضباط، تنشأ مشاكلأخلاقية معقدة.

على الضابط في الحرب أن يتخذ قرارات صعبة. إنه يرسلالجنود إلى ميدان المعركة وهو يعلم أن جزءا منهمسيموت وآخرون سيتحولون إلى حجارة بلا حراك. إنهيقسّي قلبه. وكما قال الجنرال عاموس يرون بعدمجزرة صبرا وشتيلا ” تخدّرت حواسنا ” .

سنوات من الاحتلال للأراضي الفلسطينية أحدثتتخديرا كبيرا بكل ما يتعلق بحياة الإنسان. إن قتلعشرة-عشرين فلسطينيا في اليوم، بمن فيهم نساءوأطفال، كما يحدث الآن في غزة، لا يقض مضجع أحد . هذالا يحدث أي ضجة. لقد توقفوا حتى عن ذكر الكلماتالرتيبة ” آسفون… لم نقصد.. الجيش الأكثرأخلاقية… ” وكل هذه الأقاويل الفارغة.

يبدو هذا التخدير الآن في لبنان أيضا. ضباط سلاحالجو، الأنيقين والهادئين، يجلسون أمامالكاميرات ويتحدثون عن ” حزمة من الأهداف ” ، وكأنالحديث هنا عن مشكلة تقنية، وليس عن أشخاص أحياء.إنهم يتحدثون عن طرد مئات آلاف الأشخاص منمنازلهم وكأنه إنجاز عسكري تشرئب له الأعناق،ولا يُخفون رضاهم عن النظر إلى الناس الذينتدمّرت حياتهم. إن أكثر كلمة محببة على قلوبالجنرالات الآن هي كلمة ” طحن ” : نحن نطحن، إنهميُطحنون، أحياء تُطحن، بيوت تُطحن، أناسيُطحنون.

حتى إطلاق الصواريخ على مدننا وقرانا لا يبررتجاهل كافة الاعتبارات الأخلاقية عند خوض الحرب.كانت هناك أساليب أخرى للرد على استفزازات حزبالله، دون تحويل لبنان إلى أرض خالية خاوية. إنتخدير الأخلاقيات يترجم ذاته إلى أضرار سياسيةبالغة، على الأمد القريب وعلى الأمد البعيد أيضا.إن الأحمق فقط هو من يتجاهل القيم الأخلاقية – فهيتثأر لنفسها في نهاية الأمر، ومن شأن هذا الثأر أنيكون قاسيا.

هناك مقولة تكاد تكون مبتذلة، تقول : من السهل شنّالحرب، ولكن من الصعب إنهاؤها. يمكن أن نعرف كيفتبدأ ولكن لا يمكننا أن نعرف كيف تنتهي.

الحرب هي مملكة عدم اليقين . تحدث فيها أمور غيرمتوقعة . حتى كبار القادة في التاريخ البشري لميتمكنوا من السيطرة على مجريات الحروب التيشنّوها، فللحرب قوانين خاصة بها.

لقد شرعنا في حرب تستغرق أياما . تحولت إلى حربتستغرق أسابيع . الآن يتحدث زعماؤنا عن حرب تستغرقأشهر. لقد بدأ الجيش الإسرائيلي حربا ” جراحية “لسلاح الجو، ثم أرسل وحدات صغيرة إلى الميدان،وها هي الآن ألوية كاملة تشترك فيها، وهميستنفرون قوى الاحتياط لشن هجوم على لبنانبأكمله، على غرار عام 1982. يمكن التكهن بأن هذهالحرب ستنزلق إلى مواجهة مع سوريا.

طيلة هذا الوقت، تستثمر الولايات المتحدة كافةطاقاتها لكي تمنع وقف الحرب. وبحسب المؤشرات هيالتي تدفع إسرائيل إلى المواجهة مع سوريا – دولةتملك صواريخ باليستية وأسلحة كيماويةوبيولوجية للإبادة الشاملة.

هناك أمر واحد قد أصبح واضحا، في اليوم الحادي عشرللحرب: إنها لن تجلب أي خير. بغض النظر عما سيحدث،فإن حزب الله سيخرج منها قويا. إذا كان أي شخص يأملفي أن يدخل لبنان في مسار الدولة الطبيعية،تُنتزع فيها شرعية حزب الله ليبقى قوة عسكرية،فقد منحنا بذلك تبريرا كاملا للمنظمة: إسرائيلتدمر لبنان، وأما حزب الله فهو الوحيد الذي يقاتلويدافع عن الدولة.

وأما بالنسبة للردع : إن حربا لم تنجح فيها آليتناالعسكرية الضخمة في الانتصار على منظمة عصاباتصغيرة في 11 يوما من القتال في حرب شاملة، لن تحرزالردع بالتأكيد. ليس مهم ما هي المدة الزمنية التيستستغرقها هذه الحرب وماذا ستكون نتائجها -فحقيقة كون منظمة تضم بضع آلاف من المقاتلين تصمدلمدة 11 يوما أو أكثر أمام الجيش الإسرائيليالهائل، قد انخرطت في وعي مئات ملايين العربوالمسلمين.

لن ينتج عن هذه الحرب أي خير، لا لإسرائيل ولاللبنان ولا لفلسطين. ” الشرق الأوسط الجديد ” الذيسيخرج من هذه الحرب سيكون مكانا تزداد صعوبةالعيش فيه.