كان شارون في حينه وزير الدفاع الجديد، الذي لميكتف بخطوات لتغيير وجه الأمور في البلاد. لقدأراد تغيير وجه المنطقة قاطبة، في أربع دول.باختصار: طرد السوريين من لبنان؛ إقامة نظام فيلبنان يحكمه دكتاتور مسيحي (بشير الجميّل)؛ نقلالفلسطينيين من لبنان إلى سوريا، ومنها إلىالأردن؛ مساعدة الفلسطينيين على إحلال ثورة فيالأردن وإقصاء الملك حسين؛ تحويل الأردن إلىالدولة الفلسطينية، برئاسة ياسر عرفات؛ مساومةالحكم الفلسطيني في عمان على مصير الضفة الغربية.على سبيل المثال: إنشاء وضع هناك يتيحللإسرائيليين الاستيطان في كافة أنحاء الضفةالغربية، وللفلسطينيين أن يصوتوا فيالانتخابات للبرلمان في عمّان.
هذه هي الخطة التي لاحت أمام أنظار شارون عندمااجتاح لبنان في صيف عام 1982. لم ينجح ذلك إلى حد كبيروكانت النتائج عكسية: لقد غاصت إسرائيل في الوحلاللبناني طيلة 18 سنة وخرجت من هناك بخفيّ حُنين.المسيحيون المارونيون نفذوا مذبحة صبراوشاتيلا بهدف حث الفلسطينيين على الهرب إلىسوريا، لكنهم لم يهربوا. تم بالفعل تتويج بشيرالجميّل الماروني دكتاتورا في لبنان، ولكنهاغتيل فور ذلك. ظل السوريون في لبنان طيلة 23 سنةآخرى، وخلفوا وراءهم حزب الله. لم يذهب ياسر عرفاتإلى عمّان بل ذهب إلى تونس، ومنها عاد إلى فلسطين،بعد أن اعترفت إسرائيل بمنظمة التحريرالفلسطينية ووقعت معها على اتفاقية أوسلو.الرؤيا لم تتحقق.
تذكرت ذلك الإخفاق التاريخي عندما قرأت الخطةالعظيمة التي وضعتها بنات أفكار جهبذ استراتيجيآخر: الجنرال غيورا آيلاند، رئيس شعبة العملياتفي الجيش الإسرائيلي سابقا ورئيس ” مجلس الامنالوطني ” حتى قبل فترة قصيرة، وهي مؤسسة من شأنهاوضع الاستراتيجية الوطنية.
مثله مثل شارون من قبله، يريد الجنرال آيلاندترتيب المنطقة من جديد، من الأساس. خطته ليست أقلإثارة من خطة شارون. هذه ليست خطة انفصال، لا سمحالله، بل هي ذاتها تلك الرؤيا الكبرى لتغييرالمنطقة بأسرها. ينظر آيلاند إلى خطة الانفصالالتي وضعها شارون بازدراء علني، وكذلك الأمربالنسبة لخطة الانطواء التي وضعها إيهود أولمرط.إنه يعتبر شارون وأولمرط هاويان تماما، لايعرفان ما معنى العمل التكتيكي والنقاشالمنظّم، بل يتخذان القرارات وفقا للأحاسيسالداخلية.
وكما كشف النقاب للصحافي أري شفيط من صحيفة ” هآرتس” ، فإن لديه خطة أكثر ثبوتا وأكثر دراسة، وفيما يليتفاصيلها:
¨ ضم 12% من الضفة الغربية إلى إسرائيل، 600كيلومتر مربع على الأقل، لضمان أمنها.
¨ أخذ 600 كيلومتر مربع من المصريين في شمال سيناءوضمها إلى قطاع غزة، لكي يتمكن الفلسطينيون منإقامة ميناء بحري هناك ومطار دولي ومدينة يقطنفيها مليون نسمة.
¨ إعطاء مصر، كتعويض، مساحة 150 كيلومتر مربع منأراضي إسرائيلية في النقب.
¨ تمكين شق نفق بين مصر والأردن، بجوار إيلات.
¨ نقل 100 كيلومتر مربع من أراضي الأردن إلىالفلسطينيين، كتعويض عن المساحات التي ستأخذهامنهم إسرائيل في الضفة الغربية .
لقد سمعت في حياتي عن عشرات – وربما مئات – الخططالتي وضعها أناس جيدون، كانت لديهم فكرة رائعةلإنهاء النزاع بين الشعبين. لا يمر شهر تقريبا دونأن يرسل لي أحدهم خطة جديدة عن طريق الإنترنت. خطةآيلاند ليست أسوأ من الخطط الأخرى، ولكنها ليستأفضل أيضا.
لكن هناك فرق جوهري كبير واحد : صاحب هذه الخطة هوشخص شغل منصبا مركزيا في أجهزة الأمن، وهو يشهدبذلك عن التوجهات السائدة هناك.
على الإنسان أن يكون ساذجا حقا وليست لديه أيةتجربة سياسية ليؤمن أنه بالإمكان إقناع ثلاثحكومات – الحكومة الفلسطينية، المصريةوالأردينة، ناهيك عن الحكومة الإسرائيلية -للتخلي عن أراضيها.
الأنكى من ذلك : هناك حاجة إلى تكوين نفسي معينللنظر إلى أعداد هائلة من الناس وكأنهم حجارة لعبعلى لوحة الشطرنج، حيث يمكن إزاحتهم من دولة إلىأخرى ومن مكان إلى آخر.
صحيح أنه قد تم فعل ذلك في النصف الأول من القرنالعشرين. بعد الحرب العالمية الأولى، جلسالسياسيون ورسموا خارطة العالم من جديد، فككوادولا وركبوا دولا. لقد انطوت معظم النتائج علىكوارث. بعد الحرب العاليمة الثانية أنجز ستالينعملية مماثلة. لقد ضم جزءا كبيرا من بولندا إلىالاتحاد السوفييتي، وأعطى لبولندا كتعويض جزءامن ألمانيا. ظل الوضع مستتبا، حتى الآن. أدولفهتلر كان ينوي، بطبيعة الحال، القيام بالخطوةذاتها ولكن في الاتجاه المعاكس.
هذه فكرة لا أساس لها من الصحة في واقعنا. لا يوجد أياحتمال في العالم لأن تتخلى مصر عن جزء من أرضها،مقابل مساحة أقل بكثير في مكان ما في الصحراء. لقداكتشف مناحيم بيغين ما مدى حساسية المصريين لأرضوطنهم. إن هذا الأمر متعلق بخلجات عميقة في الصدورالوطنية. في نهاية الأمر لم يتخل المصريون عن ذرةتراب واحدة من أرضهم. انظر قضية طابا.
الاحتمال بأن تتخلى المملكة الأردنية عن جزءكبير من أراضيها لصالح الفلسطينيين هو احتمالأقل بكثير. مثله مثل ضباط كثيرين، يكنّ أيلاندللأردن احتقارا كبيرا. كما أنه لا يعرف المصريينحق المعرفة، فإنه لا يفهم الزعامة الأردنية. إنحساسيتها للمخاطر المحدقة بها من حولها لم يسبقلها مثيل. ولكنها تتمتع، بطبيعة الحال، بدعم قويجدا من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا.
لا يجدر بنا حتى أن نحلم بأن توافق الولاياتالمتحدة وأوروبا على لعبة تبادل الأراضي والناسهذه. أوروبا تقدّس الحدود القائمة. لقد تعلمت منتجربتها الدامية بأنه لا يوجد أي شيء أخطر منإزاحة الحدود. إذا بدأ ذلك، فلا أحد يعلم متىسينتهي.
لا يتحدث أيلاند عن كيفية تحقيق أفكاره الفذّة.إنه يترك هذا الامر، على ما يبدو، للسياسيين -هولاء السياسيون ذاتهم الذين يحتقرهم. إنه كذلكالمخترع الذي طرح فكرة لإبطاء سرعة دوران الأرض،حين سُئل كيف سيتم ذلك، قال : ” لديّ الفكرة، ويجبإلقاء مهمة التنفيذ على عاتق الفنيين ” .
قال لي بطرس بطرس غالي ذات مرة، في فترة توليه منصبوزير الخارجية المصري، بابتسامة تهكمية خفيفة: “إن لديكم في إسرائيل أفضل الخبراء في الشؤونالعربية. إنهم يقرأون كل كتاب، كل كراسة وكلمقالة. إنهم يعرفون كل شيء ولكنهم لا يفهمون شيئا -لأنهم لم يعيشوا يوما واحدا في دولة عربية. ” يبدوأن الجنرال آيلاند يثبت صحة هذه المقولة.